فصل: (مسألة: انقضاء مدة المسح)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: انقضاء مدة المسح]

إذا انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح، أو خلع خفه في أثناء المدة وهو على طهارة المسح، لم يجز له أن يصلي بتلك الطهارة.
وقال الحسن البصري: لا يبطل المسح، ويجوز له أن يصلي إلى أن يحدث، فإذا أحدث، لم يمسح.
وقال داود: (يجب عليه نزع الخفين، إذا انقضت مدة المسح، ولا يصلي فيهما، فإذا نزعهما، صلى بطهارته إلى أن يحدث).
دليلنا: أنها طهارة انتهت إلى حال لا يجوز ابتداؤها فلم يجز استدامتها، كالتيمم إذا رأى الماء.
وما الذي يصنع في الطهارة؟
قال الشافعي في موضع: (يعيد الوضوء)، وقال في موضع: (يجزئه غسل رجليه).
واختلف أصحابنا: على أي أصل بناها الشافعي؟
فقال أبو إسحاق: بناها على القولين في تفريق الوضوء:
فإن قلنا: يجوز التفريق، كفاه غسل الرجلين.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق، فعليه استئناف الوضوء.
ومنهم من قال: بناها على هذا، لأنه ذكر في "الأم" [1/31]، وفي (كتاب ابن أبي ليلى): (أنه يستأنف الوضوء). ومذهبه فيهما: أن تفريق الوضوء جائز، وإنما بناها على أن مسح الخف هل يرفع الحدث عن الرجلين؟ وفيه قولان:
الأول: فإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث كفاه غسل الرجلين.
والثاني: إن قلنا: إنه يرفعه لزمه استئناف الطهارة، لأن نزع الخف ينقض الطهارة في الرجلين، فإذا انتقضت الطهارة في بعض الأعضاء، انتقضت في جميعها.
ووجه قوله: (إنه لا يرفع الحدث): أنه مسح، فلم يرفع الحدث كالتيمم.
ووجه قوله: (إنه يرفع الحدث): أنه مسح بالماء، فرفع الحدث، كمسح الرأس.
ومنهم من قال: القولان أصل بأنفسهما، غير مبنيين على غيرهما، وهو اختيار ابن الصباغ:
أحدهما: يلزمه استئناف الطهارة. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لأن الطهارة لما بطلت في الرجلين، بطلت في جميع الأعضاء، لأنها لا تتبعض، كما لو أحدث.
والثاني: يكفيه غسل الرجلين. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، والمزني، لأن مسح الخفين ناب عن غسل الرجلين خاصة، فظهورهما، يبطل به ما ناب عنهما دون غيرهما، كما يبطل التيمم برؤية الماء.

.[فرع: لا يمسح قبل استقرار القدم في الخف]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في "الأم" [1/28] (إذا أكمل الوضوء، ثم أدخل إحدى الرجلين في الخف، ثم أدخل الرجل الأخرى في ساق الخف، فقبل أن تستقر الرجل في قدم الخف أحدث، لم يكن له أن يمسح، لأنه لا يكون متخففًا حتى تقر قدمه في قدم الخف).
وإن أخرج رجله من قدم الخف إلى ساق الخف، ولم يبن شيء من محل الفرض فنص الشافعي في "الأم" [1/31]، والقديم: (أن المسح لا يبطل).
وقال القاضي أبو حامد: يبطل المسح. وهو اختيار القاضي أبو الطيب، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وإسحاق، لأن استقرار الرجل في الخف شرط في جواز المسح، فإذا تغير بطل، كما لو أحدث قبل أن تستقر في الخف.
فإذا قلنا بالأول فالفرق بين ابتداء اللبس وبين استدامته: أن في الابتداء يستبيح به المسح، فلم يستبحه إلا بلبس تام، وليس كذلك في الاستدامة؛ فإنه مستبيح للمسح، فلا يزول إلا بنزع تام.
فإن كان الخف طويلا خارجًا عن العادة، فأخرج رجليه إلى موضع لو كان عليه الخف المعتاد، لبان شيء من محل الفرض، بطل مسحه.

.[فرع: حكم الجرموق في المدة]

وإن مسح على الجرموقين، وقلنا: يجوز المسح عليهما، ثم نزعهما في أثناء المدة، فإن قلنا: إن الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من الرجل، فله أن يمسح على الخفين. وهل يلزمه استئناف الطهارة؟ فيه قولان.
وإن قلنا: الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من اللفافة نزع الخف أيضًا، وهل يلزمه استئناف الطهارة، أو يقتصر على غسل الرجلين؟ فيه قولان.
وإن قلنا: الجرموق بمنزلة طاقات الخف، لم يؤثر نزع الجرموق هاهنا.
وإن نزع الجرموق من إحدى الرجلين:
فإن قلنا: إن الجرموق بدل من الخف، والخف بدل عن الرجل، بنى على أحد الوجهين: هل له أن يمسح الجرموق في إحدى الرجلين؟
فإن قلنا: له ذلك، كان له هاهنا أن يمسح على الجرموق الآخر، وعلى الخف في الرجل الأخرى.
وإن قلنا: ليس له ذلك نزع الجرموق الآخر، ومسح على الخفين.
وهل يستأنف الطهارة، أو يقتصر على المسح؟ على قولين.
وإن قلنا: الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من اللفافة، نزع الخف من الرجل التي بقي عليها، ونزع الجرموق والخف من الرجل الأخرى، وغسل الرجلين.
وهل يلزمه استئناف الطهارة؟ على قولين.
وإن قلنا: الجرموق بمنزلة طاقات الخف، لم يؤثر نزع هذه الجرموق. والله أعلم، وبالله التوفيق.

.[باب الأحداث التي تنقض الوضوء]

.[مسألة: الخارج من السبيلين]

وهي أربعة: الخارج من السبيلين، والغلبة على العقل بنوم أو جنون أو إغماء، ولمس النساء، ومس الفرج.
فأما الخارج من السبيلين: فضربان: معتاد ونادر.
فأما المعتاد فهو: الغائط، والبول، والريح، والصوت، والمذي، والودي، فجيمع ذلك ينقض الضوء.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، ولم يفرق بين أن يخرج معتادًا أو غير معتادٍ، ولأنه خارج من مخرج الحدث، فأشبه البول والغائط.
قال الصيمري: وأما دم البواسير: فإنه لا ينتقض الوضوء بخروجه، لأنه ليس من نفس الجوف، إلا أن يكون من باسور باطن، فينقض الوضوء.
قال في "الأم" [1/14] (إذا خرج ريح من فرج المرأة، أو ذكر الرجل فإنه ينقض الوضوء).
وقال أبو حنيفة: (لا ينقض الوضوء).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح»، ولم يفرق، ولأنه أحد السبيلين، فانتقض الوضوء بالريح الخارج منه كالدبر.
وكذلك إذا أدخل في فرجه مسبارًا ـ وهو الميل ـ أو قطنًا فخرج منه، أو صب فيه ماء فخرج منه، انتقض الوضوء، لأنه خارج من مخرج الحدث، فهو كالغائط والبول.
قال الشاشي: وإن أطلعت دودة رأسها من أحد السبيلين، ثم رجعت فهل ينتقض الوضوء؟ فيه وجهان.

.[فرع: انسداد المخرج المعتاد]

فإن انسد المخرج المعتاد، وانفتح له مخرج من بدنه، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه:
فإن كان دون المعدة انتقض الوضوء بالخارج منه، لأن الله تعالى أجرى العادة: أنه لا بد للإنسان من موضع يخرج منه الغائط والبول. فإذا اسند المعتاد وانفتح له موضع آخر كان ذلك بمنزلة الأصلي.
وإن كان المنفتح فوق المعدة ففيه قولان:
أحدهما: ينتقض الوضوء بالخارج منه، للمعنى الذي ذكرناه، إذا كان دون المعدة.
والثاني: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأن ما فوق المعدة يكون الخارج منه قيئًا، و (الغائط): ما أحالته المعدة ونزل عنها.
وإن لم ينسد المخرج الأصلي، وانفتح له موضع آخر فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه:
فإن كان دون المعدة، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا ينتقض. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط انسداد الموضع الأصلي؛ ولأن الأصلي إذا كان مفتوحًا كان هذا بمعنى الجائفة، فلم ينتقض الوضوء بالخارج منه.
والثاني: ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأنه مخرج يخرج منه البول والغائط، فهو كالمعتاد.
وإن كان المنفتح فوق المعدة.. فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يبنى على القولين، فيما لو انفتح له مخرج فوق المعدة مع انسداد المعتاد:
فإن قلنا هناك: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا أولى.
وإن قلنا هناك: ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا وجهان، كما لو انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح الأصلي.
وأما صاحب "المهذب" فذكر: أنه إذا انفتح له مخرج فوق المعدة، مع انفتاح الأصلي لم ينتقض الوضوء بالخارج منه، من غير تفصيل، ولعله بنى ذلك على الأصح.

.[فرع: الخنثى المشكل إذا بال من فرجيه]

وأما الخنثى المشكل: إذا بال من فرجيه انتقض وضوؤه. وإن بال من أحدهما، ومن عادته أن يبول منهما في بعض الحالات فقد قال الشيخ أبو علي السنجي: ينتقض وضوؤه ببوله من أحدهما.
وقال القاضي أبو الفتوح: يبنى ذلك عندي على من انفتح له مخرج دون المعدة مع انفتاح الأصلي:
فإن قلنا في أحد القولين: إن وضوءه ينتقض بالخارج منه انتقض هاهنا.
وإن قلنا ثم: لا ينتقض فهاهنا مثله.
ولعل السنجي بناه على الأصح عنده.

.[مسألة: أحكام النوم]

وأما النوم: فعلى أربعة أضرب:
أحدها: أن ينام زائلا عن مستوى الجلوس في غير الصلاة، بأن ينام مضطجعًا على جنبه، أو مستلقيًا على قفاه ـ قال الشيخ أبو حامد: وهو نوم الأنبياء عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أو مكبوبًا على وجهه ـ قال: وهو نوم الشياطين ـ أو متكئًا على أحد جنبيه. أو مستندًا على حائط أو غيره، فينتقض وضوؤه في هذه الحالات، سواء تحقق خروج شيء منه، أو لم يتحقق، وهو قول عامة العلماء.
وقال أبو موسى الأشعري، وأبو مجلز، وحميد الأعرج، وعمرو بن دينار: (النوم لا ينقض الوضوء، حتى يتحقق خروج الخارج منه). وبه قالت الشيعة الإمامية.
وقال مالك: (النوم اليسير في القعود لا ينقض، والكثير ينقض).
وقال أبو حنيفة: (إذا نام على حالة من أحوال الصلاة في حال الاختيار: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا لم ينتقض وضوؤه وإن لم يكن في الصلاة. وإن نام مضطجعًا انتقض وضوؤه؛ لأنه لا يصلي مضطجعًا في حال الاختيار). وبه قال داود.
قال المسعودي [في "الإبانة": ق\24 ـ 25] وقد نقل البويطي مثل مذهب أبي حنيفة عن الشافعي، فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا آخر له، ومنهم من قال: غلط البويطي في النقل.
دليلنا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
قال بعض أهل التفسير: أراد إذا قمتم من النوم، ولأن الآية وردت على سبب، وهو: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزاة، ففقدت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عقدها، فأقاموا يطلبونه، فناموا، فأصبحوا ولا ماء معهم، فجاء إليها أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: حبست القوم ولا ماء معهم؟! فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]».
والخطاب إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب داخلا فيه، فكان النوم مضمرًا فيها. ويدل على أن النوم ينقض: حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أو نوم ".
وروى علي، ومعاوية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ».
و (السه): حلقة الدبر.
قال الشاعر:
ادع فعيلا باسمها لا تنسه ** إن فعيلا هي صئبان السه.

وقال آخر:
شأتك قعين غثها وسمينها ** وأنت السه السفلى إذا دعيت نصر.

والضرب الثاني: أن ينام قاعدًا متمكنًا من القعود، متربعًا كان أو غير متربع، فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان:
أحدهما قال في " البويطي ": (ينتقض وضوؤه). وهو قول المزني، وإسحاق، وأبي عبيد، لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صفوان: " أو نوم "، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ». ولم يفرق؛ ولأن ما نقض الوضوء في غير حال القعود، نقضه في حال القعود، كسائر الأحداث.
والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا ينتقض وضوؤه؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام قاعدًا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء». وهذا أخص من الخبرين الأولين، فقضى به عليهما.
وروى أنس: قال: «كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرون العشاء، فينامون قعودًا، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون». ومثل هذا لا يخفى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإن نام جالسًا، ثم زال عن حالته، نظرت، فإن زالت أليتاه، أو إحداهما، قبل الانتباه بطلت طهارته. وإن انتبه بزوالهما لم تبطل طهارته. فإن تيقن النوم، وشك هل نام قاعدًا، أو زائلا عن مستوى الجلوس لم ينتقض وضوؤه؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة.
الضرب الثالث: إذا نام في حال الصلاة: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان:
أحدهماروى الزعفراني: أن الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه). وهو قول ابن المبارك؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا نام العبد في سجوده، باهى الله به ملائكته، يقول: عبدي روحه عندي، وجسده ساجد بين يدي». فسماه: ساجدًا، فدل على أن وضوءه لم ينتقض.
والثاني: قال في الجديد: (ينتقض وضوؤه). وهو الصحيح؛ لما ذكرناه في حديث علي، وصفوان بن عسال، ولأنه نام زائلا عن مستوى الجلوس، فهو كما لو نام في غير الصلاة. وأما الخبر فالمقصود به: مدحه على الاجتهاد، ومكابرته النوم؛ لأن النائم لا يمدح على فعله.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فحد النوم الذي ينقض الوضوء: هو الذي يغلب على العقل، قليلا كان أو كثيرًا. فأما ما لا يغلب على العقل، مثل: طرق النعاس، وحديث النفس فلا ينقض الوضوء. فإن تيقن الرؤيا، وشك في النوم، انتقض وضوؤه؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في نوم. وإن خطر بباله شيء، فلم يدر أكان ذلك في حديث نفس، أو رؤيا؟ لم يلزمه الوضوء؛ لأن الأصل الطهارة، ولا يزول ذلك الأصل بالشك).

.[فرع: زوال العقل]

وأما زوال العقل بالجنون والإغماء فينقض الوضوء على أي حال كان؛ لأن حسه أبعد من حس النائم؛ لأن النائم إذا نبه انتبه.
قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "الأم" [1/32 ـ 33]وقد قيل: (ما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هكذا، اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له أن يغتسل احتياطًا).
قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: إن كان الغالب من المجنون الإنزال لزمه أن يغتسل بمجرد الجنون، كالنائم مضطجعًا. وإن لم يكن الغالب من حاله الإنزال لم يجب عليه الاغتسال، إلا أن يتحقق الإنزال، كما قلنا فيمن نام قاعدًا.
وأما من زال عقله بالسكر، فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يجب عليه الوضوء؛ لما ذكرناه في المجنون والمغمى عليه.
وقال المسعودي: [في "الإبانة": ق\24] لا يجب عليه الوضوء؛ لأنه كالصاحي في ظاهر المذهب، إلا أن يغشى عليه، فحينئذٍ يجبُ عليه الوضوء. وقال: وعلى هذين الوجهين: هل ينعزل وكيله؟

.[مسألة: لمس الأنثى]

وأما لمس النساء: فإذا وقعت الملامسة بين رجل وامرأة ـ يحل له الاستمتاع بها بحال ـ بأي عضو كان من أبدانهما لا حائل بينهما، انتقض وضوء اللامس منهما،
سواء كان بشهوة أو بغير شهوة. وبه قال ابن مسعود، وابن عمر. والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا تنتقض الطهارة بذلك). وبه قال ابن عباس، وعطاء، وطاووس، إلا أن أبا حنيفة، وأبا يوسف قالا: (إذا وطئها فيما دون الفرج وانتشر، انتقضت الطهارة، وكذلك إذا وضع فرجه على فرجها، وإن لم يولج).
وقال مالك وإسحاق: (وإن لمسها بشهوة انتقض وضوؤه. وإن لمسها بغير شهوة لم ينتقض وضوؤه).
قال المسعودي في "الإبانة": ق\25وخرج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولا مثل هذا من لمس ذوات المحارم؛ لأنه لا شهوة فيه.
وقال داود: (إن قصد لمسها، انتقض الوضوء. وإن لم يقصد، لم ينتقض).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6]. وحقيقة اللمس: باليد، ولهذا: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الملامسة».
وقال الشاعر:
لمست بكفي كفه طلب الغنى ** ولم أدر أن الجود من كفه يعدي.

وإن لمسها من وراء حائل لم ينتقض الوضوء، سواء كان الحائل صفيقًا أو رقيقًا، بشهوة أم بغير شهوة.
وقال مالك: (إن لمسها بشهوة من وراء حائل رقيق انتقض وضوؤه، وإن كان صفيقًا لم ينتقض).
وقال ربيعة: إذا لمسها بشهوة انتقض وضوؤه وإن كان بينهما حائل، سواء كان صفيقًا أو رقيقًا.
دليلنا: أن اللمس من وراء حائل لا يقع عليه اسم اللمس، ولهذا: لو حلف لا يلمسها، فلمسها من وراء حائل لم يحنث.

.[فرع: بيان طهارة الملموس]

وإذا لمس أحدهما الآخر من غير حائل فهل ينتقض طهر الملموس؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينتقض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] فخصهم بذلك.
«وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: افتقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة في الفراش، فظننت أنه قد ذهب إلى بعض نسائه، فقمت أطلبه، فوقعت يدي على أخمص قدمه، وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: أتاك شيطانك». فلو انتقض طهره لقطع الصلاة.
و (الأخمص): الموضع المنخفض في باطن القدم.
والثاني: ينتقض وضوؤه؛ لأن ما نقض بالتقاء البشرتين استوى فيه اللامس والملموس، كالجماع.
وأما الخبر: فيحتمل أنها لمسته من وراء حائل.
وإن لمس شعرها أو ظفرها أو سنها فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا ينتقض الوضوء بذلك؛ لأنه لا يلتذ بمسه.
والخراسانيون قالوا: هو على وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: ينتقض وضوؤه لأنه لمس جزءًا منها.
وإن لمس يدًا مقطوعة من امرأة، لم ينتقض وضوؤه عند البغداديين من أصحابنا؛ لأنها بالانفصال زال عنها اسم النساء.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني: ينتقض، كما لو كانت متصلة.
وإن لمس امرأة لا يحل له الاستمتاع بها، بنسب أو رضاع ففيه قولان:
أحدهما: ينتقض وضوؤه. وهو اختيار المسعودي [في "الإبانة" ق\25]؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6]. وهذه من النساء.
والثاني: لا ينتقض وضوؤه. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنها ليست بمحل لشهوته، فهو كما لو لمس رجلا.
وإن لمس امرأة كانت حلالا له، ثم حرمت عليه على التأبيد، كأم زوجته، وربيبته، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كذوات المحارم.
ومنهم من قال: ينتقض وضوؤه قولا واحدًا؛ لأنها كانت تحل له، فهي كأم من وطئها بشبهة.
وإن لمس صغيرة لا تُشتهى، أو عجوزًا لا تُشتهى، فإن كانت أجنبية منه، قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا يحكون فيها قولين. قال: ولا أعرف للشافعي نصًا في هذا، ولكن أظنهم بنوا ذلك على القولين في ذوات المحارم. وأما الصغائر والعجائز من المحارم، فمبني على القولين في الكبار منهن.
فإن قلنا: لا ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن، فالصغار والعجائز منهن أولى.
وإن قلنا: ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن فهل ينتقض بلمس الصغائر منهن والعجائز؟ على قولين، كالصغائر والعجائز الأجنبيات.

.[فرع: لمس الميتة]

وإن لمس امرأة ميتة، فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تنتقض طهارته بذلك؛ لأن اللمس إذا نقض الوضوء استوى فيه الحي والميت، كما لو مس فرج ميت.
ومنهم من قال: فيه قولان، كلمس الصغائر والعجائز الأجنبيات. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الميتة لا تشتهى في العادة.